تدريب عملي: فكر من أجل التغيير!

كثيراً مايكون لدينا رغبة في تغيير أحوالنا أو بيئاتنا .. وأحياناً يأتي التغيير رغماً عنا ونُدعّ له دعّاً.  وفي كلتا الحالتين يتطلب منا أمر التغيير الكثير من الجهد والتمحيص والتفكير حتى نعرف كيف ننتقل من وضعنا الحالي إلى وضعنا المرغوب.  ولكن ماذا لو ركزنا هذا الجهد وأطّرناه بمنهجية معينة، وماذا لو طعّمنا هذه المنهجية بأساليب العصف الذهني والعمل الجماعي؟

أنا هنا بصدد أن آخذكم في رحلة بهذا الخصوص، لأطرح لكم نموذجاً لـ “تمرين عملي” هدفه أن يساعدكم على العمل بشكل جماعي لمعرفة الطريق المناسب للتغير.  يعتمد هذا التمرين على أمرين رئيسيين:

  • التغيير يسبح في مجال من القوى المؤثرة، بعضها دافع وبعضها معرقل، ومعرفة هذه القوى والتعامل معها يمكّن من التغيير
  • العمل الجماعي والعصف الذهني الممنهج يساعد على تحديد أفضل طريق للتغيير بين هذه القوى

التغيير يسبح في مجال من القوى المؤثرة

دعونا ننظر إلى الصورة أدناه:

flight-sky-earth-space-md

هذا الصاروخ الفضائي يحاول أن ينطلق من موقعه الحالي، وهدفه هو أن يصل للفضاء الخارجي، أو موضعه المرغوب فيه.  هذا الانتقال بين الوضع الحالي إلى الوضع المرغوب فيه هو عبارة عن رحلة “تغيير”.  هذه الرحلة تؤثر عليها قوى كثيرة، بعضها إيجابي دافع للتغيير مثل قوة الدفع الحاصلة من الاحتراق النفاث.  وهناك قوى سلبية معرقلة للتغيير مثل قوة جذب الأرض التي تحاول إبقاء الصارخ في مكانه (ولو قويت قليلاً لانكمش واستوى على الأرض حطاماً).

هذا مثال لتوضيح أن أي تغيير تؤثر عليه دوماً مجموعة من القوى الإيجابية الدافعة، تدفعه للحدوث، وقوى سلبية معرقلة تمنعه من الحدوث.  وهذا ما يجب أن نحلله ونعمل عليه عندما نخوض أو نود القيام بعملية تغيير.  يسمى هذا النموذج بـ “تحليل مجال القوى” من كِيرْت لِيْوِن (Force Field Analysis by Kurt Lewin)، وهو أحد النماذج المشهورة في تحليل وإدارة التغيير.

لو ضربنا مثلاً لإحداث التغيير من بيئة العمل: “تحسين الأداء الوظيفي”.  نفترض هنا أننا نود أن ننقل مستوى الأداء الوظيفي من وضعه الحالي، ولنقل مثلاً أنه متدني حالياً، إلى الوضع المرغوب فيه، وهو مستويات أداء وإنتاجية عالية.  بتحليل بسيط لبيئة عمل افتراضية، أحدنا قد يخرج بالقائمة التالية من القوى، مصنفة على أنها: إيجابية دافعة، أو سلبية معرقلة:

قوى دافعة قوى معرقلة
بيئة العمل الصحية

وجود الحوافز المادية المناسبة

وضوح الأدوار والمسئوليات

توفر الأدوات اللازمة

النقد البناء من قبل الإدارة

الإرشاد والتوجيه من المدراء

التدريب والتطوير المستمر

 

بُعد الإدارة عن الموظفين

غياب الأهداف الواضحة

ضغط العمل الزائد

التصادمات والنزاعات الشخصية

تعقيدات وبيروقراطية القرارات

قِدَم وجمود الأنظمة الوظيفية

من اللازم ملاحظة أن لأي قوة إيجابية، يوجد نقيض كقوة سلبية، والعكس صحيح.  وفي هذه الحالة يجب أن يكتفى بأحدهما حتى يصبح التحليل ذو جدى ومن غير تكرار.

يصبح السؤال الآن: عرفت ماهي القوى المؤثرة ونوعيتها، ماذا علي أن أفعل؟

كيف نحدث التغيير؟

إحداث التغيير يتم بتركيز الجهود على تقوية القوى الإيجابية ودفعها، و تضعيف القوى السلبية أو إلغاء أثرها.

Force Field Analysis

ففي حالة الصاروخ الفضائي: قد يفكر أحدنا بتقوية قوة الدفع عن طريق تكبير الخزانات، استخدام وقود ذو كفاءة أعلى، أو إبتكار تقنيات أحدث للدفع والإنطلاق.  في المقابل قد يحاول تضعيف قوة الجاذبية بأن يحاول تصغير الكرة الأرضية (حظاً سعيداً)، أو تخفيف وزن المكوك ومكوناته.

وفي حالة “تحسين الأداء الوظيفي”، قد يركز جهوده على تقوية بعض القوى الدافعة مثل بيئة العمل والحوافز، أو قد يصب تركيزه على تضعيف أو إلغاء القوى المعرقلة مثل النزاعات الشخصية وجمود الأنظمة.  وقد يعمل على هذا وذاك.  ولذلك مع تعدد القوى وتنوعها، من المفيد تقييمها من ناحية الوزن والجهد المطلوب، والتركيز على الأقوى منها كما سنرى بعد قليل في المنهجية المقترحة.

عصف ذهني للدوافع والمعوقات

لدينا الآن نموذج سهل وبسيط لتحليل القوى بغرض إحداث التغيير.  لو أضفنا عليه قدراً يسيراً من أساليب العصف الذهني (brainstorming) والكثير من العمل الجماعي، فسوف نستطيع الوصول لاستراتيجيات أو خطوات عملية للتغيير.  وهنا مقترح لمنهجية من ست خطوات تهدف لذلك.  ولكن قبل أن نطرح الخطوات، علينا أن نجهز التالي:

تقسيم فرق العمل:

تقسيم على فرق متعددة في كل فريق عدد بين 4 – 5 أفراد.  من واقع تجربة، وجدت أن أقل من ذلك، ينتج عنه شح وقلة في الأفكار والنقاش، وأكثر من ذلك ينتج عنه “زحمة” واصدامات وعدم إتاحة الفرصة للجميع.

استخدام الأدوات اللازمة:

  • طباعة أو رسم مقياس قوى التأثير (انظر أدناه) وتعليقه على الحائط لكل فريق.  وإتاحة مساحة للحركة حول المقياس، وطاولة قريبة منه للعمل الفردي والنقاش الجماعي.
  • الكثير من أوراق الملاحظات اللاصقة (Post-It Notes) بلونين “أزرق” و”أحمر” أو مايقاربهما.  الأزرق سيستخدم لكتابة القوى الدافعة، والأحمر للمعرقلة.

Forces Scale v1.0

وأخيراً، الكثير من الحماس والإبداع والمتعة!

وإليكم الخطوات الست:

1| نحدد “موضوع التغيير”: ماذا نغير؟

تحديد موضوع أو سمة التغيير التي نود إحداثها، وهذا يتم بنقاش جماعي لكل فريق على حدة، أو قد يكون محدداً مسبقاً لكل الفرق.  يفضل الصياغة بحيث يصبح الموضوع انعكاساً للتغيير، كأن يبدأ بـ “أن نكون …” أو “تحسين” أو “تطوير” وهكذا.

2| نحدد القوى المؤثرة

بشكل فردي، يقوم كل فرد في المجموعة بالتفكير في القوى المؤثرة على موضوع التغيير.  يكتب قوة واحدة في كل ورقة ملاحظات لاصقة، بحيث يستعمل زرقاء إذا كانت دافعة للتغيير، وحمراء إذا كانت معرقلة للتغيير.  ويعمل كل فرد جاهداً على حصر أكبر عدد ممكن من القوى من غير تردد أو تقييم أو تخوف.  يلصقها بعد ذلك في أي مكان على اللوحة، ولكن في الجهة المناسبة (الزرقاء على اليمين، والحمراء على اليسار).  توضع في أي مكان من غير اعتبار قوة التأثير حالياً.

لاحظ أن الخطوة هذه صامتة وهادئة 100%، لأنها عمل فردي بحت من غير تأثير أحد على الآخر.  وهذا هو العصف الذهني المطلوب، مع مراعاة القواعد التالية:

  • هذه مرحلة توليد أفكار، والتقييم سيأتي لاحقاً، لذلك لاتحكم على أفكار أحد (القوى) بأنها جيدة أو سيئة.
  • الكم أهم من الكيف أو النوعية.  التحليل والتقييم لاحقا سينخل ويصفّي.
  • تجنب السخرية أو التعليقات اللاذعة (جدّاً أو هزلاً) لأن ذلك يعطل من التفكير الإبداعي.

3| نراجع ونجمّع ونختصر

يقوم الفريق الآن بتحليل القوى الموجودة على اللوحة والنقاش بهدف التجميع.  من الطبيعي أن يصبح لديك قوى كثيرة متشابهة، لذلك فإن الغرض هنا إلغاء المكرر وإعادة الصياغة بشكل أفضل إن لزم.  ينتج عن هذه الخطة أن عدد الأوراق سيقل على اللوحة، وأن القوى ستكون متباينة بشكل واضح من غير تداخل بينها.

وجدت من واقع التجربة أن الفرق الناجحة هي التي تخرج بقوى جديدة على أثر النقاشات والحوار الصحي.  ولذلك لا يمنع أن نكتب القوى الجديدة التي ظهرت من خلال النقاش ونلصقها على اللوحة.

4| نصوت على القوى المختلفة

بعد حصر جميع القوى الممكنة، ومعرفة ما إذا كانت دافعة أو معرقلة، يقوم كل فرد بالتصويت على كل قوة (ورقة) وإعطائها رقماً من 0 – 10 من ناحية التأثير.  الـ 0 يعني أن القوة عديمة التأثير، والـ 10 يعني أن القوة عالية التأثير (سواءً سلباً أو إيجاباً).

من المهم تنظيم طريقة التصويت جيداً، بحيث يستطيع كل شخص كتابة تصويته على كل ورقة من غير تأثير من أحد أو تخطي أي قوة.  وجدت بعض أفراد الفرق يغفل عن هذا ويلتبس عليه مع الزخم أي القوى صوّت عليها وأيها لم يفعل.  مع ملاحظة أن التصويت فردي من كل شخص في الفريق.

5| نحصّل المتوسط ونضع على المقياس

أصبح الآن لدينا عدد من التصويات على كل قوة على اللوحة، والخطوة التالية هي أن نقوم بحساب المتوسط (مع جبر الكسور) ونكتبه على كل قوة (ورقة) بوضوح.  بعدها نلصق الأوراق كل واحدة في مكانها الصحيح على المقياس.  إن كانت محصلة التصويتات 2 فنضعها عند الرقم 2، في اليمين إن كانت زرقاء، وفي اليسار إن كانت حمراء، وهكذا.

6| نناقش ونحدّد إستراتيجيتنا

هنا مربط الفرس!  ننقاش بشكل جماعي مالذي سنركّز عليه من القوى ومالذي سنقوم به بصددها: تقوية الدوافع، وإضعاف المعوقات.  من الطبيعي أن تبدأ في تحليلك من القوى الأقوى فالأضعف.  فمثلاً، جهدك الذي تبذله على قوة تأثيرها 9 سيكون مثمراً أكثر من قوة تأثيرها 3، وهكذا.

الجدير بالملاحظة أن سيظهر من النقاش أن بعض القوى تعتبر خارج دائرة حكم الفريق الذي يود أن يحدد خطوات عملية في التغيير.  لذلك، إن وجدت مثلاً أنك لن تستطيع تغيير الأنظمة الجامدة (رغم أن قوتها في التأثير 10)، تلتفت لما يليها في قوة التأثير بحيث يكون في متناول يدك وتحت طائلة حكمك أو صلاحياتك.

الهدف من هذه الخطوة هو الخروج بعدد (3-4) استراتيجيات أو خطوات عملية للتعامل مع القوى، وبهدف إحداث التغيير.  وتصبح هذه خطة العملية التي تعمل على إنفاذها بعد التمرين.

كم الوقت اللازم لهذا العمل؟

 ليس هناك حد معين للعصف الذهني والتفكير الإبداعي!  ولكن من واقع التجربة وبحكم أني أدرج هذا العمل كفقرة في برنامج تدريبي أو ورشة عمل، وجدت أن كل خطوة من الخطوات السابقة تستغرق بين 10 – 15 دقيقة وأحياناً 20 دقيقة.  الوقت اللازم للعمل يحتاج من ساعة (بنمط سريع ومستعجل قليلاً، وبنتائج أقل فعالية)، إلى ساعتين (بنمط هادئ وإعطاء فرصة لنتائج وخطط جيدة).

وهنا نموذج يمكن تحميله لمقياس قوى التأثير وطباعته بدقة عالية.

أرجو أن أكون وفقت في طرح فكرة التمرين والنظرية وراءه، والخطوات العملية التي يمكن أن يقوم بها فريقك.

لا تبخلوا علي بالآراء والملاحظات في الأسفل.

2 thoughts on “تدريب عملي: فكر من أجل التغيير!

  1. suhali mosa ردّ

    طرح رائع احسنت كيف يمكن ان استخدم هذا المخطط في تحسين الخدمه الصحيه

    • عبدالرحمن كاتب المقالةردّ

      سؤال نطاقه واسع ويصعب اختصاره في كلمات بسيطة. ولكن سأحاول.

      تحسين الخدمات الصحية – وكذا غيرها من الخدمات – قد يتطلب منك أكثر من التفكير بالتغيير وحده. وأفضل الأساليب التي وجدتها في ذلك هو #تصميم_الخدمات وتوظيف مبادئ #التفكير_التصميمي وانطلاقا من #تجربة_العميل (أو المريض في حالتكم). وضعت لك الكلمات المفتاحية على شكل أوسمة (هاشتاق) حتى تعرف من أين تبدأ وماذا تبحث عنه.

      أما إن أردت أن تحلل الوضع الراهن للخدمات الصحية لديكم، باستخدام النموذج الذي طرحته هنا، فيمكنك أولا تحديد النطاق: هل تود التعامل مع جميع الخدمات الصحية أم جزءا معينا منها؟ من الجيد تحديد نطاق على قسم معين مثل “الطوارئ” أو “المختبر” أو “الأشعة” في البداية ثم البناء على ذلك تدريجيا. وبعد ذلك، تستطيع مع فريقك استخدام المنهجية التي طرحتها لتحليل النطاق الذي حددته ومعرفة القوى المؤثرة فيه.

      وتذكر أن الغرض من هذا الموضوع هو “تحليل المشكلات” باستخدام مقياس القوى والعصف الذهني الممنهج.

      شكرا لك.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.