ثلاث رحلات ثم سقوط حر – نموذج لتجربة وظيفية مثالية

هل تحبون النماذج، كما أحبها أنا؟  .. طبعاً أنا لا أتكلم عن النماذج التي تعبونها عندما تفتحون حساباً بنكياً، أو عندما تقدمون إجازتكم السنوية.  أنا أتكلم عن النماذج المرجعية (أو المثالية) التي تبسط أمور حياتنا وتجاربنا المختلفة.  والتي غالبا ماترسم شكلاً أو طريقاً يسهل الإقتداء به.  النماذج تمثل تجاربنا بحيث يمكننا الرجوع إليها عندما تختلط علينا الأمور، وتمكننا من المقارنة والتمحيص بحيث نعرف هل ما نحن عليه يعتبر “نموذجاً مثالياً” أم لا، صحيح أم خاطئ!

“أوكي عبدالرحمن، فكنا من الفلسفة… وش تبي تقول بالضبط؟”

أوك 😳

سوف أتحدث هنا عن “نموذج” لتجربة مثالية في العمل أو الوظيفة بالتحديد.  وكيف يمكنك أن تخوض هذه التجربة بمتعة وتنوع، وكيف أنها غالباً ما تكون على مدى 4 سنوات (رغم أن رقم 4 ليس ضرورياً).  أمثل هذا النموذج برحلات ثلاث ثم سقوط حر.  وأقصد بذلك أن تخوض الوظيفة كأنها ثلاث رحلات متتالية (أي ثلاث مراحل) تختلف كل رحلة عن الأخرى، ثم تختم برحلة رابعة.  هذه الأخيرة ما هي إلا رحلة سقوط.

الرحلات الثلاث أسميها: رحلة التعلم، ورحلة الأداء، ورحلة العطاء.  والرابعة أسميها رحلة الرحيل.

ما أصفه هنا في هذه الرحلات، هو ما يجب أن يخوضه كل من شغل عملاً أو وظيفة، حتى تكون تجربته ممتعة وحتى يعيشها لآخر لحظة، وفيها أيضاً تحقيق التوازن بين الأخذ والعطاء.  ونحن جميعاً نعلم أن الوظيفة عبارة عن عقد فيه تبادل مصالح بين الموظف وجهة العمل، وهذا ما جعلني أذكر أن للموظف نصيب في الأخذ كما أن عليه حق في العطاء.

إليكم نموذج “ثلاث رحلات ثم سقوط حر” بشيء من التفصيل.

1| الرحلة الأولى: رحلة تعلم

وهذا ما يجب علينا توقعه من أي إنسان تسند له وظيفة أو مسؤوليات جديدة. يجب عليه أن يتعلم، وهذا التعلم يجب أن يكون شاملاً لكل شيء.  يجب على الإنسان أن يعرف ويتعلم عن: متطلبات الوظيفية، وبيئة العمل، وطريقة ونمط العمل.  يجب أن يعرف الأهداف والاستراتيجيات كما يجب أن يعرف الأمور التشغيلية اليومية.  يجب أن يتعرف على مديره وأسلوبه في الإدارة، كما يجب أن يتعرف على زملائه في العمل ونمط التعامل معهم.

في هذه الرحلة لا يتوقع منك الكثير، وقد يستوي أداؤك مع أداء الآخرين.. ولكن المفصل هو ماذا تعلمت أكثر من غيرك، وما هو حجم رصيدك المعرفي الذي بنيته خلال هذه الرحلة.

وكثيراً ما يحزنني عندما أرى بعض الموظفين الذين يهملون رحلة “التعلم” هذه أو يتخطونها تماماً.. خصوصاً من كان ذو معرفة وخبرة ومهارات سابقة في مجال العمل نفسه.  للتعلم متعة! وهؤلاء يفوتون متعة العمل بتركهم هذه الرحلة.  كما أن من يستعجل في هذه الرحلة أو يتخطاها يفتقد عاملاً مهماً آخر، وهو أن هناك خصوصية في كل وظيفة يجب عليك أن تتعلمه مهما كانت خبراتك السابقة.  التأقلم مع ظروف الوظيفة وبيئة العمل هو أحد هذه الخصوصيات التي لا تتكرر بين الوظيفة والأخرى.

كما أن هؤلاء المستعجلين يفتقدون فرصة التعلم من الآخرين، وهي في نظري فرصة يفوتونها على أنفسهم ويفوت معها فرصة التطوير والتحسين المستمر.  فترى أحدهم يقوم بوظيفة اليوم كما كان يقوم بها قبل عقد من الزمان من غير تغيير أو تطوير.

2| الرحلة الثانية: رحلة أداء

ماذا تتوقع ممن يستثمر وقتاً وجهداً جيداً في التعلم؟ النتيجة طبعاً هو الأداء العالي.  وهذه الرحلة هي رحلة مثمرة بالأداء.  وفيها أن تطبق ثمرات ما تعلمت من الرحلة السابقة، وذلك بدرجات أعلى من الكمال والجودة في العمل.

قد نسمي هذه الرحلة “سداد الدين”، لأن فيها رداً بأدائك الجيد لما أعطتك إياه جهة عملك من فرص التعلم.  سواء كانت تلك الفرص رسمية (ببرامج التدريب) أو غير رسمية (بالتطبيق العملي والمشاريع).  ويمكن، أيضاً، أن نسمي هذه الرحلة عائداً جزئياً للاستثمار الذي استثمرته جهة عملك فيك.  ولكن لماذا عائد “جزئيٌ” وليس عائداً كلياً؟  … لأن العائد الحقيقي من الاستثمار يكون في الرحلة التالية.

3| الرحلة الثالثة: رحلة عطاء

نعم رحلة عطاء، وذلك بأنك عندما تتعلم جيداً، ثم تترجم ما تعلمته إلى أرض الواقع بأدائك الجيد تصبح مباشرة “نموذجاً يحتذى به” في وظيفتك.  وهذه مسؤولية تلقي بنفسها على عاتقك، وحتى تقوم بهذه المسؤولية يجب عليك أن تمد يد العون لغيرك وتساعدهم في رحلاتهم حتى يخوضونها كما خضتها أنت.

هذه الرحلة تأتي دوماً بعدما يشار إليك بالبنان في تميز أدائك، ومنها تأتي الحاجة إليك في توجيه وإرشاد غيرك بأساليب تعرف بالإرشاد العملي (Coaching).  وهي رحلة غالباً ما يقف على بوابتها الكثير من المتميزين في أدائهم… دون أن يخطو خطوة واحدة لصعود طائرة هذه الرحلة.  والسبب غالباً ما يكون في استشراف الترقيات أو الفرص الوظيفية الأخرى والتي تزج بهم في رحلات التعلم والأداء وهلم جراً.

أنت لا تتخيل كيف أن هذه الرحلة هي من أمتع الرحلات التي يمكن أن تخوضها، وكيف أن فائدتها ومتعتها تعم جهة عملك وزملائك ومجتمعك.  ويمكنك فيها أن تحقق أعلى مستويات العائد من الاستثمار… وأتكلم هنا في سياق رأس المال البشري.

ولا تستغرب عندما أبالغ وأسميها “أنانية”… عندما تكون نموذجاً للموظف المثالي في المعرفة والخبرة والأداء العالي ، ثم لا تمد يدك للآخرين ليكونوا مثلك أو حتى أحسن منك!

4| الرحلة الرابعة: رحلة رحيل، أو سقوط حر

ليس عيباً أبداً أن تسقط بعد خوضك لرحلات ثلاث ناجحة.  وأعني بالسقوط هنا الفترة اليسيرة التي تمر بها عندما تتشبع بوظيفتك الحالية ويصيبك منها شيء من الملل.  فترة فيها تأمل وتفكير وإعادة لترتيب الأوراق ومراجعة للأهداف والأولويات.  هي في نظري رحلة مهمة يحق لك فيها أن تستشرف الوظيفة الجديدة والتحدي القادم.  هي بمثابة استراحة المحارب، أو حتى الفر الذي يتبعه كر.

هذا مجرد نموذج مثالي، والحياة ليست مثالية

من المهم أن تعرف أن النماذج المثالية هي نماذج مجردة ولا يمكن لتجارب الحياة الواقعية أن تتطابق معها تماماً.  النماذج تمثل الطرق المثالية لخوض تجربة ما، ودائما ماترى أن الواقع يميل وينحرف عن هذه الطرق المرسومة بدقة.  وهذا لايعني أن النماذج خاطئة وعليك أن تتخلص منها، وإنما يعني أن تعقل أنه لا يمكنك أن تحذوا حذو النماذج بدقة أو جمود بل عليك أن تقبل أنها مرجعية تقيس قربك أو بعدك منها.

ومن هذا المنطلق يجب أن تعرف أن خوضك الحقيقي لهذه الرحلات التي ذكرتها لن يكون بالتسلسل المذكور، واحدة تلو الأخرى.  بل في الأغلب أنك ستخوض رحلتين وأحيانا ثلاث مع بعضها، فتكون مثلا في رحلة التعلم والأداء معاً.  أو تكون في رحلة الأداء والعطاء في نفس الوقت.  أو حتى في الرحلات الثلاث سوياً.  وقد تكون في رحلة العطاء وفي نفس الوقت تتذبذب بينها وبين الملل والرغبة في التغيير (رحلة الرحيل أو السقوط الحر).

وفي نظري، أن الأهم هو أي الرحلات تطغى على الأخرى وتعيشها في ذروتها.  فمثلاً، قد تكون في رحلة التعلم والأداء في نفس والوقت، ولكنك تعيش ذروة التعلم أكثر من الأداء – كأن تكون في وظيفة جديدة – فتعرف أن رحلتك الأساسية هي رحلة التعلم.  أو تكون في ذروة الأداء ومازلت تتعلم وتطور من نفسك – كأن تكون قد قطعت شوطاً في وظيفتك الحالية – وعندها تعرف أن رحلتك الأساسية هي رحلة الأداء.  وهكذا.

وشيء آخر في هذا النموذج، وهو عدد السنوات الذي تستغرقه الرحلات مجتمعة، وكيف ذكرت أنه يقدر بـ 4 سنوات.  هذا الرقم مبني على التجربة وليس على الدراسات، حيث أن مكثك في الوظيفة الواحدة لمدة أربع السنوات يمكنك من خوض الرحلات وإعطائها حقها.  أقل من ذلك وقد تخل أو تتخطى أحد هذه الرحلات الحيوية في الوظيفة.  أكثر من ذلك وقد تفوتك على نفسك فرص تطور وتحدي جديدة.  ولكلٍّ طموحاته وقدراته وطاقاته الخاصة، والتي تجعل لكلٍّ تجربته الخاصة في هذا الرقم.

تجربتي الخاصة في خوض “ثلاث رحلات ثم سقوط حر”

قبل أن أذكر تجربتي في تطبيق هذه النوذج وخوضي لرحلاته، يجب أن أعترف لك ببعض الأمور أولاً:

  1. لم أعرف النموذج بشكله الذي ذكرته إلا بعد خوضي هذه التجارب بسنوات.  وهذه يعني أني لما طبقت النموذج لم أكن أعرف بوجوده أصلاً
  2. لم ينطبق هذا النموذج على جميع تجاربي الوظيفية، وإنما انطبق على اثنين منها فقط.  والتجربة الثالثة هو ما أخوضه حالياً (وقد أكتب عنه في المستقبل إن شاء الله)
  3. التجارب التي طبقت هذا النموذج (أو تطبقه حالياً) هي من أفضل وأمتع التجارب التي مررت بها في حياتي الوظيفية.

أول وظيفة ينطبق عليها هذا النموذج هي عندما كنت “مهندساً للنظم” في شركة MeduNet لمدة سنتين (2001 – 2003).  مررت بالرحلات الثلاث من التعلم والأداء والعطاء.  أعطتني الشركة فرصاً كثيرة للتعلم والتطوير، وتمكنت بحمد الله من التفوق في الأداء وتطبيق ماتعلمته.  كما أني ختمت بتدريب وتوجيه وإرشاد زملائي في العمل.  أعترف بأني لم أخض رحلة الرحيل لأني  انتقلت بشكل سريع إلى وظيفة أخرى بعدها، والتي بدورها للأسف لم تنل نصيبها من الرحلات الثلاث.

الوظيفة الأخرى التي ينطبق عليها النموذج هي عندما كنت “أخصائياً تقنياً” في شركة Microsoft لمدة تقارب الـ 4 سنوات (2006 – 2009).  خضت فيها الرحلات الثلاث بزخم من التعلم والأداء والعطاء.  كما أني عشت رحلة الرحيل في نهاياتها، والتي جعلتني أنتقل داخلياً في وظيفة أخرى، ومن ثم في وظيفة خارج الشركة.

خلاصة

هذا نموذج للوظيفة المثالية، من خلاله تخوض تجربة الوظيفة برحلات ثلاث حيوية فيها التعلم، والأداء، والعطاء.  يساعدك هذا النموذج أن ترى وظيفتك الحالية بمنظور مختلف يوازن بين الرغبة والمسؤولية، بين الأخذ والعطاء.  ويساعدك كذلك في التخطيط لوظيفة المستقبل حتى تكون تجاربك العملية أو الوظيفية فعالة وممتعة.  أتمنى لكم حياة عملية مليئة بالمتعة والعطاء.

وهذا إنفوجرافيك يبسط الفكرة.

6 thoughts on “ثلاث رحلات ثم سقوط حر – نموذج لتجربة وظيفية مثالية

  1. Nora ردّ

    الموضوع جدا رائع ، اتمنى ان تستمر في الطرح المميز .. سعدت جدا بأني تعرفت على هذه المدونة بالصدفة واعتقد بأني سأكون من روادها .

  2. منال العبيد ردّ

    هذا النموذج يمر به الموظف الشغوف بالتعليم والتطوير، قد ندركها وقد لاندركها
    ويرجع ذلك لعدة أسباب أذكر أحدها هو حبك لما تعمل.
    اسمتعت جدًا بالقراءة وأسلوبك في الكتابة ذو التصوير البصري

  3. ظافر القرني ردّ

    اعتبره من اجمل ماقرات .. ويترجم واقع كثير من الموظفين اشكرك على هذا التنوير الرائع

    • عبدالرحمن كاتب المقالةردّ

      شكرا لك أخي الكريم ⁦🙏🏻⁩

اترك رداً على عبدالرحمنإلغاء الرد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.