المقابلة الشخصية بين مطب جوي أو محطة في رحلة

أياً مايكون مكانك حالياً، سواء مازلت في الأجواء الدراسية أو في طريقك لبناء مسيرتك العملية، فإن المقابلات الشخصية ستكون جزءاً لا يتجزأ من حياتك، وغالباً ما تشكل لحظات حاسمة فيها.  هذا لأن المقابلات الشخصية مازالت أداة مهمة ورئيسية عند كثير من المدراء والمسئولين عن القبول والتوظيف.  المقابلات الشخصية تتسم غالباً بالتوتر والضغط النفسي.  وأحياناً يتخلل هذه اللحظات تجارب ممتعة ترسم الابتسامة على وجهك عندما تتذكرها وتملأ قلبك فخراً بأحداثها.  وكذلك يشوبها هفوات أو أخطاء فادحة يمتعض لذكراها وجهك ويمتلئ قلبك بالحسرة أو الغرابة منها.

إلا أننا نخطئ عندما نخوض مثل هذه اللحظات الحاسمة في حياتنا على أنها مجرد “مطبات جوية” تأتينا فجأة وعلينا التفكير فيها والتعامل معها في لحظتها من غير تمهيد سابق.  ويغيب علينا أننا من اللازم أن نتعامل معها على أنها محطات وقوف في رحلة الحياة الطويلة، وخصوصاً العملية منها.  محطات يلزم علينا أن نعي أولاً أنها قادمة لا محالة، وأن في وسعنا الاستعداد لها والتمهيد لرسم تجربة فريدة وممتعة فيها.

حتى على مستوى الزواج، فهناك مقابلة شخصية (نسميها في السعودية “الشوفة”)، ورغم أن موضوعها مختلف تماماً، إلا أني وجدت أنه بالإمكان تحوير المقال ليغطيها كذلك!.  ولكن دعونا من ذلك حتى لا أغضب زوجتي 😅.

في هذا المقال، هدفي أن أطرح مجموعة من الأفكار التي أرجو أن تساعدك في تغيير هذه النظرة من مجرد أن المقابلة الشخصية هي “مطب جوي” يتطلب ردة فعل، إلى أنها “محطة في رحلة” تستطيع المبادرة في الاستعداد والتعامل معها.  أرتب هذه الأفكار وأقسمها على أربع مراحل رئيسية نسبة للحدث الحاسم “المقابلة”:

  • ما قبل “المقابلة” بكثير
  • الاستعداد لـ “المقابلة”
  • خوض “المقابلة”
  • ما بعد “المقابلة”

ما قبل “المقابلة” … بكثير

ذكرت أن “المقابلة الشخصية” حدث حاسم وجزء لا يتجزأ من حياتنا العملية.  وبالتالي، بدلاً من أن تستعد قبلها بأيام معدودة، عليك أن تتعامل معها بتمهيد يسبقها بفترات طويلة قد تصل لأشهر أو حتى سنوات.  وهنا بعض الأفكار التي لو عملت عليها، ستجد نفسك تخوض تجربة المقابلة الشخصية بثقة ومتعة ومستويات أقل من التوتر.

  1. اعمل على توضيح أهدافك وطموحاتك المهنية.  لا بأس أن تجد نفسك ضائعاً أو غارقاً في مقتبل حياتك المهنية فهذا طبيعي، ولكن لا يعني أن تعلق العناية برسم الأهداف والطموحات وتوضيحها للأبد.  والعمل على أهدافك بطبيعته أن يساعدك على أن تكون واثقاً من نفسك لأنك صاحب هدف، ويساعدك كذلك على فلترة الفرص الوظيفية بشكل أفضل (في حالة أن بيدك الاختيار🤔!).
  2. اهتم ببناء وتطوير المهارات وخصوصاً المتميز منها، ولا تتبع شغفك فقط.  فكما أن الشغف بمثابة الروح للعمل، فإن المهارة بمثابة الجسد الذي يجب عليك أن تبنيه وتربيه وتمرنه.  وغالباً ما تأتيك الفرص الوظيفية بناء على مهاراتك ومايعرف عنك، وهي غالباً جل النقاش في المقابلات الشخصية “السليمة”.
  3. اعتنِ ببناء خبرات من عملك وليس مجرد مُدَدٍ تملأ بها صفحات سيرتك الذاتية، ويتم تسجيلها في ملفك في التأمينات الاجتماعية.  والأهم أن تعتني بكتابتها وتوثيقها، وهذا يثري النقاش وقت المقابلة.  وكثيراً ما ينسى الإنسان إنجازاته.  ولك أن تسأل كل من عاد لقراءة سيرته الذاتية بعد انقطاع سنوات عنها: فمنهم من يتفاجأ انبهاراً مما أنجز في حقبة مضت من الزمن، ومنهم من يصيبه الإحباط (إن اكترث 🙁!) لخلو تاريخه العملي من الخبرة الحقيقية.
  4. تعرّف على نفسك ومايحفزك ويدفعك للعمل، وماهو أسلوبك في العمل والذي عن طريقه تقدم قيمة حقيقية لمن يعمل معك أو يريد توظيفك.  وهذه النقطة تخدمك من جهتين، وهي أن تعرف الفرص التي تناسبك، وكذلك أن تعرف كيف “تسوِّق” لنفسك أثناء المقابلة.
  5. تعرّف على ما يناسبك من الوظائف والمهن (job-fit)، وما يناسبك من بيئات العمل (culture-fit).  وفي نفس الوقت لا تكن صارماً صلفاً من هذه الناحية وتضيق على نفسك الفرص.  معرفة مواءمة ومناسبة الوظيفة والمكان يفيدك كثيراً عندما يكون لديك خيارات متعددة.

لا حظ أن هذه الأمور تجهزك وتساعدك في جوانب كثير في التخطيط المهني، وليست حصراً على المقابلات الشخصية.  ولكني اقتصرت على سرد علاقتها وأثرها في المقابلات الشخصية لمناسبة الموضوع وتجنباً للتشعب.

الاستعداد لـ “المقابلة”

عندما تبدأ ملامح محطة المقابلة الشخصية بالظهور، كأن يأتيك طلباً مباشراً أو أن يكون لديك رغبة في التقدم على وظيفة معينة، فهناك أمور تحتاج العمل عليها.  بعضها بديهي، والبعض الآخر يغفل عنه كثيرون خصوصاً من الجدد المقبلين على سوق العمل.

  1. راجع سيرتك الذاتية وحدثها وكذلك تأكد من تحديث صفحتك الشخصية على الموقع المشهور LinkedIn.  فكثير من مسؤولي التوظيف يعتمدون بشكل جزئي وأحياناً بشكل كلّي على “اللنكد إن”.  وبالنسبة لسيرتك الذاتية، فاعمل على أن لا تتعدى صفحة واحدة، ودع التفاصيل في صفحتك في “اللنكد إن”.  ولا مانع أن يكون لديك أكثر من نسخة من السيرة الذاتية، كل واحدة موجهة لفئة وظيفية معينة.  وهذا لا يعني أنك تخادع، وإنما أن تختار من خبراتك ومهاراتك وسيرتك ما يناسب لقارئها.  مقولة “One Size Fits All” أصبحت لا تنطبق على السيرة الذاتية اليوم وذلك لتنوع وغرابة الفرص الوظيفية.
  2. راجع صفحاتك الشخصية الأخرى في مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والتويتر، وتأكد من نقائها وخلوّها من أي شيء قد يسيء لمسيرتك المهنية.  كنت متردداً في أن أذكر مثل هذه المعلومة، لأنه من المفترض أن يكون الشخص رقيباً على نفسه وحريصاً طول الوقت على ظهوره بشكل احترافي (وليس بالضرورة بشكل رسمي).  ولكن الواقع أن الناس يحصل منهم هفوات وغفلة تختلط بشيء من اللامبالاة والنسيان فتحصل المشاكل!
  3. غيّر فكرتك عن أن هذه مجرد “مقابلة شخصية لوظيفة” إلى أن هذه “اجتماع لبحث ونقاش فرصة عمل”.  فمثلاً، جهّز حقيبة لأعمالك وإنجازاتك السابقة (سواءً مطبوعة أو إلكترونية) إن كان ممكناً ومناسباً: كأن تعرض أعمالك في التصميم، أو البرامج التي طوّرتها، أو الخطط التي عملت عليها، أو العروض التي قدمتها، .. إلخ.  حتى وإن كنت أرسلتها في السابق!، لأنك ستتفاجأ في أن الكثير ممن يقومون بالمقابلة الشخصية لم يتعدّوا الصفحة الأولى من سيرتك الذاتية 🙄 !
  4. قم بالبحث والتحري جيداً عن المكان والوظيفة التي أنت مقبل عليها.  مجرد حرصك وسؤالك عن المسمى والمهام الوظيفية تعطي عنك انطباعاً جيداً.  عداك عن أنك تعطي نفسك فرصة للاستفسار والسؤال عن تفاصيل أكثر أثناء المقابلة.
  5. استعد وتمرّن جيداً على الأسئلة الشائعة التي لا تكاد أي مقابلة شخصية أن تخلو منها.  وهذه أمثلة وليست حصراً:

    • تحدث عن نفسك في خمسة دقائق؟ أو كيف ستقدم نفسك إلينا؟
    • قرأنا سيرتك الذاتية (<— لم يقرأها 😳!) ولكن نود أن نسمع منك عن مسيرتك التعليمية والعملية؟
    • لماذا أنت هنا؟ أو لماذا تود التقدم على مثل هذه الوظيفة أو هذا المكان؟
    • ما هي نقاط القوة (أو نقاط الضعف) لديك؟
    • لماذا علينا أن نفضّلك على المتقدمين الآخرين؟ مالذي يميّزك؟
    • أخبرنا عن صعوبة مررت بها وكيف تعاملت معها؟
    • [في حال الانقطاعات الطويلة] لاحظنا أنك انقطعت عن العمل (أو الدراسة) لفترة معينة، ما هي الأسباب؟

خوض “المقابلة”

المقابلة نفسها عبارة عن تجربة لحظية ولا تكاد تتعدى الساعة، لذلك فإن أي شيء تقوم فيه خلالها له أساس واحد: “بناء الانطباع الجيد”.  بناء مثل هذا الانطباع يجب أن يكون انعكاس لواقعك الحقيقي، ولا بأس بأن يكون أكثر “قليلاً”.  إن حاولت التلميع والنفاق الزائد فسيظهر لك عاجلاً أم آجلاً الآثار السلبية لذلك.  وإن ظهرت بصورة أقل بكثير من واقعك، فسينتابك الشعور بالندم والحسرة، ولكن لا تنس أن الأمر كلَّه بيد الله.

  1. اعتن بمظهرك واظهر بالصورة الملائمة والتي غالباً ما تتطلب أن تكون رسمياً أو احترافياً.  وهذا ليس بالضرورة دوماً، فظهورك لمقابلة شخصية في جهاز حكومي أو شركة كبيرة يتطلب أعلى الدرجات من الرسمية.  أما ظهورك في مقابلة مع شركة ناشئة تبحث عن الفردية في شخصيتك فتتطلب الظهور بمظهر عادي (ولائق على الأقل).  هناك دوماً حد أدنى يُستمد من العرف والثقافة المحلية، فلا تغفل عنه وكن فوقه دوماً.
  2. تأكد في أن تكون مشاركاً في قيادة المقابلة وأن لا تسلم رقبتك لمن يقابلك بالكلية.  هذا يستلزم منك أن تكون مبادراً وسبّاقاً أحياناً في طرح الأسئلة، وهنا تأتي فائدة التحضير المسبق كما رأينا في مرحلة الاستعداد للمقابلة.  ولا أحد يريد منك أن تستولي على ساحة النقاش، ولكن الوسطية هي المطلب.
  3. اطرح الأسئلة واستفسر عمّا تجهل، وهذا يبين أولاً اهتمامك وحرصك، وثانياً يبين مستوى فهمك ووعيك.  فكثير من الأسئلة تدل على اتّقاد عقل من يطرحها، حتى وإن أظهرت جانباً يجهله في مجاله، فالكمال لله وحده.
  4. ارع انتباهاً للغة جسدك، وخصوصاً طريقتك في الجلوس، وحركة يديك، واتصال العين، ونبرة الصوت.  أنا لا أؤمن كثيراً بمن يحلّلون ويفرطون في تفسير ووصف لغة الجسد، ويحملونها فوق ما تتحمل.  إنما هناك أساسيات يجب مراعاتها مثل التالي:

    • اجلس منتصب الظهر قليلاً من غير تشنج، ولا انغماس في المقعد.
    • استخدم حركة اليدين المريحة والطبيعية في توصيل أفكارك (من غير انقباض مثلاً أو تقليم أظافر).
    • حافظ على اتصال العين بمن يقابلك، ووزّع النظرات بينهم من وقت لآخر إن كانوا مجموعة.  لا أحد يستمتع بالحديث مع من يطرق النظر في الأرض أو في جنبات حضنه أو يديه.
    • استغل نبرات الصوت الطبيعية والوقفات اليسيرة لإيصال رسالتك.
  5. سينتابك شعوران طبيعيان في المقابلة: القلق والثقة، وكلاهما مطلوب ولكن لا إفراط ولا تفريط.  فكما أن القلق الزائد يؤثر سلباً على لغة الجسد، فإن انعدامه تماماً يجعل منك متبلّد الإحساس فاقد الحماس والطاقة.  وكما أن انعدام الثقة يجعلك مهزوزاً متردّداً، فإن الثقة الزائدة عن حدّها تعمي بصيرتك عما حولك وكثيراً ما تجعلك مغروراً.

الخطوات التالية بعد “المقابلة”

عندما تنتهي المقابلة فلا يعني هذا إغلاق بابها ونسيانها بالكلية.  فأحياناً يعتمد نجاح المقابلة على ما تقوم به من خطوات وأمور بعدها.  ففي حال ترقّبك ورغبتك في هذه الوظيفة، فأنصحك بالتالي:

  1. في نهاية المقابلة، استشف الانطباعات الأولية، وتأكد من فهمك ووضوح الخطوات التالية بعدها.  فلا تعتمد على مايقال لك (مثلاً: “سنتصل بك لاحقاً”)، وإنما استفسر عن الوقت والخطوات الممكنة من طرفك (مثلاً: “لو لم يتم الاتصال بي خلال أسبوع، هل هناك رقم أو شخص أستطيع عن طريقه متابعة الموضوع”).
  2. قم بمتابعة الموضوع حسب ما استوضحته في الخطوة السابقة.  مثلاً، أرسل تحديثاً لسيرتك الذاتية (إن طلب منك ذلك أو رأيته مناسباً)، أو شارك عيّنات من أعمالك السابقة التي لم يتسن لك عرضها ونقاشها.  أرسل بعض الأفكار والمقترحات للتطوير والإبداع، ولكن تأكد أن لاتظهر بصورة الناقد المتعجرف، وإنما بصورة المتعاون المُنصح.
  3. إذا تم رفضك، فلا تقبل الجواب من غير الأسباب.  حاول – بحرص وأدب رفيع – أن تعرف أسباب الرفض لأن في طيّاتها دروس وفوائد تستطيع أن تتعلم منها وتصحّح من وضعك في المقابلات القادمة.
  4. إذا تم قبولك فلا بأس أن تبيّن حماسك وسعادتك (بعقلانية، فإن الله لايحب كل مختال فخور!)، واستوضح التفاصيل مثل العرض الوظيفي والمتطلبات الأخرى والزمن اللازم لذلك.  وبعدها ضع عقلك وقلبك في عملك، وهذا من شكر نعمة الله عليك.
  5. في جميع الأحوال اشكر الله أولاً وآخراً، إن كان قبولاً فـ “نعمة”، وإن كان رفضاً فـ “خيرة”.  واشكر أصحاب العمل على الفرصة، وحافظ على الجسور سليمة بينك وبينهم مهما كان الجواب.  فلا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً.

أما إن كنت لا ترغب في تلك الوظيفة، فبيّن ردك من غير مماطلة ولا تجاهل أو نسيان.  واذكر الأسباب إن كان ذلك مناسباً، ولا تنس الحفاظ على الجسور بينك وبين كل من تعاملت معه.

خلاصة

أرجو أن أكون وُفِّقت في رسم الصورة الصحيحة لتجربة المقابلة الشخصية، وأن أكون فعلاً ساعدتك في تغيير نظرتك إليها ونقلها من مجرد لحظات عابرة تشبه المطبات الجوية، إلى تجارب مهمة أقرب إلى أن تكون محطات نمر عليها لا محالة في رحلاتنا العملية والشخصية.

أرجو لكم التوفيق والسداد في مسعاكم.

7 thoughts on “المقابلة الشخصية بين مطب جوي أو محطة في رحلة

  1. ناديه ردّ

    كنت ادور مثل هالمقال كأني اخذت دوره ثلاث شهور في الصميم الله يجزاك الجنه

  2. Hussein Serhan ردّ

    رائع الله يوفقك ويرفع مقامك

    • عبدالرحمن كاتب المقالةردّ

      آمين وإياك

  3. عبدالرحمن العثمان ردّ

    يا سلام عليك يالسمي ما قصرت وفيت وكفيت
    اخوك عبدالرحمن العثمان

  4. عبدالرحمن يحي القحطاني ردّ

    كتب الله أجرك ورفع قدرك مقالة رائعة وضحت لي كثيرا مما كنت اجهله.

اترك رداً على عبدالرحمن يحي القحطانيإلغاء الرد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.