خلق القيمة أساس في العمل

قبل عدة سنوات شاركت مع فريق لتطوير الخطة الإستراتيجية لأحد الجهات الحكومية، وكانت من أولى تجاربي في مجال التخطيط الاستراتيجي ومن أمتعها.  لست بصدد الحديث عما جرى فيها بالتفصيل، فالمقال لا يستهدف ذلك.  وإنما وددت أن أبيّن أنه في ذلك المشروع اطّلعت على نموذج أعتبره “روح” التخطيط الاستراتيجي وقلبه النابض، والذي بدونه لن تستطيع التحليل وبناء خطط استراتيجية فاعلة تبين مجالات المنشأة ومشاكلها وفرصها ومايجب أن تقوم به من أعمال.

هذا النموذج هو “سلسة القيمة” (Value Chain) وهو بمثابة الصورة الشاملة والخارطة التي يجب أن ينطلق منها كل عمل مؤسسي.  والهدف منها هو معرفة “كيف تقوم المنشأة، بأعمال معينة وفي تسلسل معين، بخلق قيمة للعميل أو المستفيد النهائي”.  والفكرة هي أن المنشأة (سواء في القطاع العام أو الخاص أو الخيري) يجب أن يكون في وجودها وأعمالها قيمة مضافة لعملائها، وألا يكون وجودها مثل عدمه.

ماذا تعني “القيمة” أصلاً؟

في الزمن الغابر كانت القيمة مجرد انعكاس لجانبين رئيسيين في المنتج أو الخدمة: الجودة والسعر.  لأنك عندما تعمد إلى شراء سلعة معينة، فإنك تهتم بسعرها (وكيف ينعكس ذلك على جيبك)، وكذلك جودتها (والذي ينعكس على جيبك أيضاً على المدى البعيد).  وهذا المفهوم ليس مقصوراً على المجال التجاري، بل يمكن توسيعه ليشمل حتى الخدمات العامة (القطاع الحكومي) والخدمات الخيرية (القطاع الربحي).  فيهمك مثلاً تكلفة الخدمة الحكومية عليك ومدى جودتها، وكذلك تكلفة البرنامج الخيري الذي تود المساهمة فيه وجودة تنفيذه وأثره.

مع مرور حقب من الزمن، وتنوع السلع والخدمات واستمرار وتحسنها، ورفاهية المجتمعات، وارتقاء ذائقتهم وطموحاتهم.. والكثير من “الدلال” وصعوبة الإرضاء.. انتقلت “القيمة” إلى آفاق أرحب ومستويات أصعب.  فلم تعد “القيمة” تقتصر فقط على “جودة” المنتج أوالخدمة و”سعرها”، وإنما كل العناصر التي تمثل شيئاً يهم المستفيد من المنتج أو الخدمة ويمثل له “قيمة” مضافة يقدّرها بثمن مادي أو بثمن معنوي.

وبهذا أصبحت القيمة صعبة الملامح وفضفاضة التعريف فشملت مايلي وأكثر:

  • السهولة والراحة في تحصيل المنتج والخدمة واستهلاكها (مثلاً، لماذا كل هذا التركيز على الخدمات الإلكترونية وخدمات التوصيل، مؤخراً)
  • الخدمات المصاحبة والتي تأتي كحزمة أو مواصفات إضافية مع المنتج أو الخدمة وتزيد من قيمتها لدى المستفيد (وتخلق مساحة للتنافسية بين المنتجين)، مثل العروض وخدمات ما بعد البيع.
  • سرعة الحصول على المنتج أو الخدمة، فلم يعد مرضياً أبداً، أيامنا هذه، أن تطلب خدمة حكومية ثم يقول لك القائل: “لو سمحت، راجعنا بعد أسبوع!” (“لو سمحت” <- هذي من عندي!😅)
  • تكامل المنتجات والخدمات مع بعضها بحيث أصبح مجموعها أكبر قيمة من إفرادها.  ولك أن تتصور خدمات نظام “أبشر” الحكومي على شكل خدمات متقطعة بين الجهات الأمنية المختلفة ولا يجمعها مظلة وتطبيق واحد.
  • الاعتمادية في تقديم المنتجات والخدمات بحيث يتم الحصول عليها بنفس الطريقة وبنفس التوقعات.  ماهو شعورك مثلاً عندما تتسوّق عبر الإنترنت أو تطلب خدمات التوصيل المختلفة فتتفاوت فترات التوصيل بشكل كبير، أو تصلك بعض السلع والخدمات وبعضها يضيع بين حفريات وزحمات “الرياض” 😒!
  • التكلفة الإجمالية للمنتج أو الخدمة، أو ما يسمى بـ “تكلفة الإمتلاك الكليّة” (Total Cost of Ownership).  وتعني بكل بساطة: كم ستدفع مقابل هذا المنتج أو الخدمة في البداية (بطاقة السعر) وكم سيكلفك امتلاكه طوال فترة حياته معك (تكاليف تشغيله وصيانته مثلاً).  وهذا سر نجاح خدمات “الحوسبة السحابية” والتي تغنيك عن بناء بنية تحتية لتقنية المعلومات وتشغيلها بنفسك مما يستنزف ميزانيتك “المتواضعة”.  (استطراد تقني 🤓)

لذلك، عندما نقول خلق “قيمة” فإننا نقصد بها المعنى الأساسي في القيمة كسعر وجودة، وكذلك كل هذه العوامل وغيرها مما يحدد قيمة المنتج أو الخدمة وفائدته للمستفيد منه.

ماهي سلسلة القيمة إذن؟

سلسلة القيمة  إذن هي عبارة عن نموذج يمثل الخطوات والأعمال الأساسية التي تقوم بها منشأة ما بتحويل مواردها أو مكوناتها الخام إلى خدمات ومنتجات تحقق القيمة التي يرجوها العميل أو المستفيد النهائي.  وهي من أعمال العالم والخبير “مايكل بورتر” وتمثل طريقة لرسم الصورة الشاملة للمنشأة والتي يمكن أن تستخدم في التحليل والتخطيط الإستراتيجي، بالإضافة إلى أعمال أخرى كثيرة مثل: التنظيم الإداري، هندسة وتحسين الإجراءات، بناء قدرات الموظفين والشركاء (والعملاء إن رغبت 🤔)، وقياس وإدارة الأداء.

Value is the Core

يأتي السؤال الآن: كيف يبدو شكل سلسلة القيمة وكيف يمكن للمنشأة استخدامها للفهم والعناية الفائقة بخلق قيمة لعملائها أو المستفيدين منها.

هذا ما سأطرحه هنا في سياق أمثلة تغطي القطاعات الثلاثة: الخاص، العام، وغير الربحي.

هل نحتاج سوقاً للأسماك؟ هل هناك قيمة من وجود سوق كهذه؟

تخيّل معي مثلاً، قرية صغيرة بجوار بحر تستمد خيرات الله منه كأسماك وغيرها من المأكولات البحرية.  أراد أحد المستثمرين أن ينشئ سوقاً لجلب السمك وبيعه للمستهلكين (العملاء).  سلسلة القيمة لهذه السوق (المنشأة) قد تكون بالشكل التالي:

Value Chain - Fish Market

القيمة الحقيقية لمثل هذه السوق هو توفير نوعيات مختلفة من الأسماك والمأكولات البحرية الطازجة بشكل يومي، وبأسعار تناسب أهل القرية، وتسهل على أهل القرى والمدن المجاورة الاستفادة من خيرات البحر.

لو كان هذا السوق يعقّد عملية جلب الأسماك – كأن يتأخر جلبها للسوق فتفقد طعمها الطازج.  أو لا يقدم قيمة حقيقية للمستهلك – كأن يفرض نوعاً معيناً على أهل القرية أو يكون هناك هوامش ربح تفوق طاقتهم.  فحتماً هناك خلل في سلسلة القيمة هذه.  وعدم وجود السوق في هذه الحالة أفضل، كأن يستمر أهل القرية بالصيد المباشر أو الشراء المباشر من الصيّادين.

وحتى يضمن صاحب السوق هذه استمرارية وفعالية استثماره، فعليه أن يدرس سلسلة القيمة جيداً وأن يضمن أن كل خطوة فيها تزيد من محصلة القيمة النهائية لأهل القرية (وله أيضاً).  فيقوم مثلاً بعمل اتفاقيّات مع الصيادين لجلب أنواع مختلفة حسب حاجة المستهلكين وفي أوقات مبكرة، بحيث يقوم بفرزها بوقت كافي في نواحي معينة في السوق قبل وقت الافتتاح، ويقوم باستخدام أدوات مناسبة للمحافظة على برودة الأسماك، ويعرضها بالشكل المناسب، ثم يبيعها على المستهلك بالسعر المناسب.  وقد يقوم بفتح قنوات توزيع وتوصيل للمدن والقرى المجاورة، بحيث يكفي سكانها عناء السفر لجلب حاجتهم من الأسماك الطازجة، وهكذا.

حينها وحينها فقط قام بخلق قيمة للعميل وأصبح وجود السوق ضرورة ملحة أو ذات قيمة مفيدة لأهل القرية ومن جاورها!

هل نحتاج جهة لتشريع وتقييم خبراء تقنية المعلومات؟ هل سنحصّل قيمة من وجود جهة كهذه؟

ومثال آخر يمس سوقاً من نوع آخر: سوق الخبرة والاستشارات فيما يخص “تقنية المعلومات”.  الكثير منا يحتاج لخدمات مختلفة في تقنية المعلومات، والحصول عليها من أصحاب وبيوت الخبرة أصبحت ضرورة ملحة خصوصاً مع الثورة الرقمية التي نعيشها أيامنا هذه.  وبناء على ذلك قد تفكر الحكومة أو من له سلطة تشريعية في أن ينشئ جهازاً أو برنامجاً حكومياً لتقنين هذه المهنة وتقييم وتصنيف خبرات وقدرات مزاوليها في البلد.

سلسلة القيمة لبرنامج أو جهاز كهذا قد تكون كالتالي:

Value Chain - IT Regulator

القيمة الحقيقية لمثل هذا البرنامج هو استهداف مهارات وقدرات معينة تخدم رؤية البلد (فكر مثلاً رؤية المملكة 2030)، وتنهض بأساليب وجودة الاستشارات التقنية، وتستهدف توطين الوظائف والقدرات التقنية، وتنظف سوق العمل من الممارسات الخاطئة أو الممارسين غير المؤهلين.

لو أنشئ هذا البرنامج ولكنه أخلّ بخطوة أو أكثر في سلسلة القيمة هذه، فقد يكون عدمه أفضل من وجوده.  كأن يستهدف قدرات ومؤهلات عاف عليها الزمن ولا تواكب التطورات الرقمية الحديثة، أو أن يشرّع أنظمة تخنق الإبداع وحرية السوق والحركة، أو أن يكون هناك تقصيراً أو شحّاً في برامج التعليم والتأهيل المناسبة، أو أن يمتلئ السجل الوطني بسجلات ومؤهلات غير موثقة أو معتمدة، أو أن يكون هناك قصور في ضبط المخالفين.

لذلك فإن نقطة الانطلاق  في برنامج حكومي كهذا، يجب أن تكون من “سلسلة القيمة” هذه، وعليها تبنى خطوات وأعمال مؤسسية أخرى من أهمها التخطيط الاستراتيجي.

هل نحتاج داراً للأيتام؟ ما هي القيمة المضافة من عمل خيري كهذا؟

كل عمل مؤسسي يجب أن يستهدف خلق قيمة حقيقية للشريحة المستفيدة منه، وإذا خلا منها، فقد خلا من روحه.  والعمل الخيري لا يستثنى من طرح سؤال كهذا!

لو قلنا أن مجتمعاً معيناً يريد أن ينشئ داراً للأيتام، فقد تكون سلسلة القيمة لمؤسسة خيرية كهذه بالشكل التالي:

Value Chain - Orphanage

القيمة التي تستهدفها دار الأيتام هذه هي أن تقوم برعاية وتأهيل الأيتام والذين لايجدون من يقوم بشؤونهم وحاجاتهم الأساسية من مسكن ومأكل ومشرب وكذلك تعليم وتدريب وتأهيل لسوق العمل.  وبالتالي فإن وجودها يكون له بصمة واضحة وقيمة مضافة على حياة الأيتام والمجتمع بأكمله.

لو أخلّت هذه الدار بواحدة أو أكثر من خطوات السلسلة، فإنها ستقصّر بالقيمة التي تحاول خلقها.  وقد يصل هذا التقصير إلى درجات تؤدي إلى إحداث آثار سلبية في المجتمع قد يجعل من عدم وجودها أفضل في الأصل.

فمثلاً، قد تبدأ الدار بحوكمة ضعيفة في البداية تجعل من تنظيمها وبنيتها غير مؤهلة للقيام بأعمالها، أو قد يجعل للفساد عليها طريقاً مما يؤدي إلى استغلال مواردها لاحقاً بشكل خاطئ.  وقد تقصر الدار في مرحلة جمع التبرعات وضمان الموارد المالية، مما قد يهدّد بإغلاقها لعدم تمكنها من تنفيذ برامجها.  أو قد تستهدف برامج رعويّة (مسكن ومؤونة) وتهمل التنمويّة (تعليم وتأهيل) فتزجّ بعدد من الأيتام الذين لا يتحملون المسؤولية ويصبحون عالة على المجتمع.  أو قد تخل الدار في تنفيذ برامجها مما يضيع الموارد ويفقد قيمتها.  وقد تعمل الدار على أتمّ وجه، إلا أن الأثر الحاصل من برامجها ليس بالمستوى المطلوب أو لا يمكن قياسه أساساً فيصعب عليها تقييم وضعها وتحسين برامجها.

وبذلك تجد أن الانطلاق والتركيز على خلق قيمة يعتبر ضرورة ملحة في أي عمل استراتيجي وهذا يشمل القطاع الثالث؛ القطاع الخيري أو غير الربحي.

خلاصة

فهم “سلسلة القيمة” (Value Chain) هو من أهم وأول الخطوات الأساسية في أي عمل مؤسسي، وهي أداة تساعد في التحليل الشامل وتحديد الاستراتيجيات التي تساعد في التركيز على خلق القيمة.  لذلك تعتبر الروح والقلب النابض للعمل المؤسسي، ولا يقتصر دورها فقط على التخطيط الاستراتيجي، بل يتعدى ليغطي جوانب مثل التنظيم الإداري وبناء القدرات وإدارة الأداء.

ولكن.. لحظة!

مؤخراً، هناك توجه إلى موضوع آخر هو “رحلة العميل” (Customer Journey) فكيف تختلف هذه عن “سلسلة القيمة”، وهل هي مسمّى آخر أو عمل مكمّل لها؟

هذا ما أنوي الحديث عنه في مقالة قادمة بإذن الله.

أرجو لكم وقتاً ممتعاً!

4 thoughts on “خلق القيمة أساس في العمل

  1. فهد ردّ

    مقال رائع جدا وطريقة سلسلة لتوضيح مفهوم جوهري كـ”خلق القيمة”. تذكرت نموذج مايكل بورتر للقوى الخمس للتحليل الاستراتيجي للأسواق.
    ملاحظة: لو تظيف في نهاية كل مقال أسماء بعض المراجع التى تنصح بقراءتها لتساعد القراء في الاطلاع أكثر

    • عبدالرحمن ردّ

      شكرا لك أخوي فهد،،،

      مايكل بورتر ذكر “سلسلة القيمة” ونموذج القوى الخمس في مقالات عدة في مجلة HBR وموجودة أيضا في كتابه:
      Competitive Advantage: Creating and Sustaining Superior Performance by Michael E. Porter

  2. محمد الفيفي ردّ

    يعطيك العافية يا إستاذ عبدالرحمن … مقال رائع ومهم لمن يقوم بالتخطيط الإستراتيجي
    بورك في وقتك

اترك رداً على عبدالرحمنإلغاء الرد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.