يذكر “إد باتستا” في مقال له في مجلة “هارفرد بزنس ريفيو” أن تعلم كلمة «لا» هي جزء من النجاح. ولكن لماذا قال ذلك؟ وإن كان حقاً، فكيف نقولها بالطريقة الصحيحة؟
وقبل أن نتعلم كيفية قول «لا» بالطريقة الصحيحة، فعلينا أولا الإيقان بأهميتها في حياتنا العملية والشخصية… لذلك اسمحوا لي بعرض مفترض لحياة إنسان خلوق وعملي اسمه “أحمد”.
أحمد لايعرف كلمة «لا» إطلاقاً
أحمد في اجتماع مع مديره في العمل:

أحمد في طريق عودته للبيت (الساعة الـ 6 مساء، وكان في المكتب من الساعة 7 صباحاً)… تتصل عليه زوجته:

وعندما كان في السوبرماركت… يتصل عليه أخوه الأكبر محمد:

هذه لمحة بسيطة من حياة أحمد والذي لايعرف البتة كلمة «لا» … بل تكاد لاتجدها في قاموسه أصلا عداك أن يستخدمها. وهو كما ذكرت محب للخير، خلوق، ومجتهد، ويستحيي من أن يرد الناس… ولكن ذلك كله على حساب حياته وصحته. فماذا تتوقع من شخص كـ “أحمد” إلا أن ينفجر في لحظة.. إما على من حوله فيغضب ويخسرهم، أو من داخله فتأكله الحسرة ويصيبه الهم والغم!
وحال أحمد هذه قريبة جداً من أحوال كثير من الناس كسبت شرف معرفتهم واستقيت من خبراتهم وأخلاقهم. ورأيت منهم كذلك التردد في قول كلمة «لا». وإن ربطوا جأشهم وعزموا أمرهم على قولها، قالوها إما بطريقة لينة تكاد تكون ضعفاً، أو قالوها في لحظة عاصفة فخسروا زملاء لهم أو إخواناً أو أقارب. أو رجعوا من حيث جاء عزمهم، وكبتوها وعضوا عليها الأنامل لعدم مقدرتهم على قولها.
لماذا يغلب علينا قول كلمة «نعم» لكل ما يردنا من طلبات
كما أنه من الخطأ أن نبادر دوماً لكلمة «لا» في أمورنا مع من حولنا – فذلك يجفيهم عنا – فإنه من الخطأ كذلك أن نلزم كلمة «نعم» لكل مايردنا من طلبات. ذلك أن كلمة «لا» لها وزنها وأهميتها كأي كلمة أخرى، ولا يجب علينا إسقاطها من قواميسنا في حياتنا العملية والشخصية. كما أن لها، كأي كلمة أخرى، ارتباطاً في سياقها وتغيّرا في قوتها بتغيّر أسلوب قائلها ولغة جسده ونبرة صوته.
ولكن ما هي الأسباب التي تدفعنا لقول «نعم» في غالب أمرنا؟
عندما نفكر بشيء من التمحيص نجدها أسباب تنبث من أمرين رئيسيين: إما إرضاءً لأنفسنا، أو إرضاء للآخرين. فعندما تأتيك طلبات أو أعمال فإنك تقبل بها أحياناً لإثبات أنك قادر على هذا النوع من العمل، أو للحماسة التي تجدها في نفسك والنشوة التي تدفعك لاستشراف هذا العمل أو ذاك الطلب. وأحياناً يكون السبب في ذلك خوفاً من فوات الفرص والخسارة. مثل صاحبنا أحمد اللذي قبل بمهام زميله لأن ذلك يرشحه إلى رئاسة القسم في المستقبل.
هذا من جانب إرضاء أنفسنا وتحقيق رغبتها. وأما من جانب إرضاء الآخرين، فغالباً مايكون ذلك تحرجاً من ردهم، وتأدباً معهم، وخوفاً على مشاعرهم. أو أننا لانرى لنا بداً من القبول كأن يأتينا ذلك الطلب أو العمل أمراً من عند الإدارة أو الوالدين مثلاً.
لماذا قد تندم يوماً على كلمة «نعم»؟
ومع أهمية إرضاء أنفسنا وإرضاء الآخرين، إلا أن ذلك ينقلب نكداً وحسرةً إذا أصبح ديدنا وأسلوباً سائداً في حياتنا. ذلك الندم له أسباب. أولها أن وقتنا وموارنا محدودة، ولن نستطيع استيفاء كل الطلبات والأعمال المناطة بنا بشكل لانهائي. مثل ما حصل لصاحبنا “أحمد” والذي قضى ساعات طويلة في المكتب، وعندما احتاج للراحة والهدوء، وجد زخماً من الطلبات التي ستأكل ساعاتٍ أكثر من يومه وهو لن يطيق ذلك يوماً واحداً، فما بالك لو كان ذلك نمط حياته.
وثانياً، أنك في تقديم كلمة «نعم» في شأنك كله سيلهيك حتماً عن أمورك الأهم، والتي من الأولى أن تنشغل بها. وإذا كان تقسيم “ستيفن كوفي” للوقت على أربعة أرباع صحيحاً حسب الأهمية والعجلة، فإن مربع المبادرة (ما هو هام وغير عاجل) سيكاد يختفي من حياتك وبذلك تفقد روح المبادرة في أعمالك وتظل تسعى وراء ما يطلبه الآخرون. كأنما يخططون لك حياتك، وأنّى يفلح هذا التخطيط!
وثالثاً، أنك ستفقد عنصر التركيز والذي هو مهم في بناء سيرة مهنية صحيحة وحياة شخصية متزنة. ذلك أنك بقبولك لكل مايطلب منك ستجد نفسك تقفز من عمل لآخر، ومن مجالٍ لثانٍ، وستجد نفسك تعمل أعمالاً كثيرةً وتأخذ من كل بحر ولكن من غير عمق أو بناء لمهارات محددة. وسينطبق عليك حينها المثل: “سبع صنايع والبخت ضايع”، أو المثل الأجنبي المشابه: “Jack of All Trades, Master of None!” والذي يعني أنك تعرف كل صنعة إلا أنك لست خبيراً في أي منها.
اقتنعت بما تقول، فكيف السبيل إلى كلمة «لا»، إذن
جمعت لك هنا تسع استراتيجيات متنوعة لتساعدك في قول كلمة «لا» بالطريقة الصحيحة. وقسمتها إلى ثلاثة أقسام هي: ماقبل قولها، وأثناء قولها، ومابعد قولها.
استراتيجيات “ماقبل” قولها:
أي قبل ورود الطلبات والتفكير في ما إذا كان الجواب بـ «نعم» أو «لا» هو الأنسب …
1| التأمل: ومعرفة مايشغل وقتك
تأمل جدول أعمالك واعرفه خير المعرفة. مالذي يشغل جل وقتك؟ وكيف تتزاحم فيه المهام والأعمال المختلفة؟ وبذلك سوف تتمكن من معرفة كمّ الأعمال التي يمكنك استيعابها في المستقبل. وإن كنت من اللذين يتلقون الكثير من الطلبات والأعمال والتي تشغل بالك وتسبب لك القلق، فأنصحك بطريقة إنجاز الأعمال (GTD) والتي تساعدك على تحليل أعمالك وتنظيم مهامك.. هذا إن كنت من هواة أدوات إدارة الوقت.
2| الاستعداد: ومعرفة أهدافك وأولياتك
اكتب أهدافك أو اعرفها جيداً، والأهم من ذلك أن تعرف أولوياتك. لا تنتظر اللحظة التي لا تستطيع فيها اتخاذ قراراتك. وكثيراً مايقولون أن إدارة الوقت ليست إلا معرفة أولوياتك. لذلك أنصح بمعرفة مبدأ المصفوفة الزمنية من ستيفن كوفي، والأهم أن تعمل مصفوفتك الخاصة وتطبق الاستراتيجيات المختلفة فيها.
وبهذه الاستراتيجية ستساعد نفسك على معرفة الجواب المناسب في المستقبل. فمثلا، استعدادك للأعمال والفرص المستقبلية يكون بتحديد معايير بسيطة تهمك ومنها تستطيع معرفة جوابك مسبقاً. مثلاً، لو كنت ممن يحبون مجال الخدمة العامة وليس لهم في التجارة، فإنك سترفض بسهولة كل عرض يأتيك وفي طياته الحرقة لجمع الثروة. وهذا ليس كلامي، بل كلام الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في كتابه “حياة في الإدارة”:
“إنني أعتقد، جازماً، أنني لو دخلت ميدان التجارة لما حققت أي نجاح. غريزة التملك تضرب بجذورها في أعماق كل إنسان، وأنا لا أختلف في هذا الصدد عن غيري. إلا أني لم أحس، قط، بذلك التحرق إلى جمع ثروة طائلة، وهذا التحرق، بالذات، هو الذي يحرك كل تاجر ناجح.”
وهذه المعرفة هي التي جعلته رحمه الله يرفض العمل في تجارة أبيه ويسلك مجال الخدمة العامة.
3| الاستباقية: والتسويق لاهتماماتك وأجندة أعمالك
عندما تتحدث مع الآخرين، وخصوصا مع مدرائك وزملائك وأقاربك، عما يشغل جدولك فإنك بهذه الطريقة تخبرهم بمدى انشغالك. هذه الاستباقية تريحك في المستقبل من السؤال الغريب والأعوج الذي يمكن أن يطرح عليك: “أنت وش مشغول فيه؟!”. وأما عندما تتحدث علناً عن اهتماماتك، فإنك حتماً تجتذب الفرص المناسبة لك كما تجتذب الزهور النحل. وتنأى عن الأمور التي لاتهمك ولاتريدها أن ترد إليك.
استراتيجيات “أثناء” قولها:
أي أثناء الطلب وحينما تود اتخاذ القرار بـقول «نعم» أو «لا» …
4| التحفظ: والتأني في قول كلمة «نعم»
فالطيش في قول كلمة «نعم» وقبول العمل لايجدي. بل إن التأني دوماً ما يسفر عن القبول المشروط، أو الرفض بالطريقة الصحيحة. فمثلاً، لو تأنى صاحبنا أحمد في قبول الأعمال المتزايدة التي يرمي بها مديره وقَبِل ذلك بشرط لكان أجدى. فقد يقول مثلاً: “أبو عبدالله، أنت تعرف أهمية التقرير السنوي الذي نقوم به وأنه يحدد كثيراً أهمية إدارتنا ومصير ميزانيتنا السنة المقبلة. كما أنك تعرف أن التخطيط وإطلاق المنتج الجديد يستغرق جهداً ووقتاً لايستهان بهما. لذلك أود منك إعفائي من إدارة الحسابات الصغيرة وتوكيلها بأحد المستجدين، حتى أتمكن من التركيز على حسابات زميلي سالم وهي أهم”. وبهذه الطريقة ستهيّئ لنفسك الوقت والموارد المساعدة على تحقيق المطلوب.
5| الاستنفاع: وتشكيل الطلب لما يخدم عملك واهتماماتك
وبهذه الطريقة تستطيع تحويل الطلب إلى فرصة، تكيفها مع أهدافك وأولوياتك، وتستغلها لخدمتك. وهذا الاستنفاع محمود ما دام في حدود المصلحة العامة. فمثلاً، قد يضيف أخونا أحمد على الطلب السابق بأن يطلب مساعداً له يتم تفريغه لإدارة حسابات زميله سالم. وهذا يحقق له فرصة أن يدير أشخاص آخرين، ويستعد لإدارة القسم مستقبلاً.
واستراتيجية الاستنفاع هذه تتسم بالإبداع كذلك. فهي تمكنك من اكتشاف عوالم أخرى قد تكون مخفية عنك لو أنك بادرت بكلمة «لا» أو «نعم غير مشروطة» من غير تفكير. وقد جائتني فرص كثيرة لو قمت برفضها على افتراض علّاتها لخسرت الكثير، ولكن التأني وتحويل هذه الفرص إلى منفعة هو الطريق الأصلح. كمثال بسيط، جاءني مرة أحد ممثلي التدريب في جهة ما يود مني استضافة وتقديم برامج تدريبية لهم. وبما أني لست معهداً للتدريب فقد يكون الجواب بـ «لا» هو الطبيعي، وقد كنت سأخسر العمل مع هذه الجهة. إلا أن النقاش تحول إلى توفير هذه البرامج التدريبية عن طريق معهد تدريبي مفضل لديهم وأن أكون أنا المدرب، وحصل منه إبرام عقد بيني وبين هذا المعهد. هذا بدوره سيحقق لي فرص التدريب مع جهات أخرى كذلك!
6| الحزم: والثبات واللطف في قول «لا»
عندما تكون مقتنعا بأن «لا» هي الجواب المناسب، فلا تتوانى وإنما قلها في حينها. ولكن اجعل طابعها الحزم واللطف معا. وغالباً ما يلتبس على الناس أسلوب الحزم، ويفهمون منه الجفاوة والعنفوان، وهذا غير صحيح. فإن الحازم، كما يعرف في الإنجليزية بـ “Assertive” هي صفة في التعامل مع الناس، وهي وسط بين السلبي “Passive” والعدواني أو الهجومي “Aggressive”. فالسلبي يمتثل ويتنازل على حساب نفسه لتجنب المواجهة أو الاصطدام، والعدواني يسعى لتحقيق مصلحته من غير مراعاة لمصالح الآخرين. أما الحازم فهو واثق وثابت لتوصيل رسالته ويعمل جاداً لخلق جو من الوفاق بين مصلحته ومصالح الآخرين.
والحزم بهذه الطريقة سيهيئ الطرف الآخر لتقبل الرفض، كما أنه سيساعده على ترتيب أموره والبحث عن وسائل أخرى. واعترف بأني مررت بتجارب سابقة تأخرت أو ترددت فيها عن قول كلمة «لا»، وكان لهذا أثر سلبي علي وعلى من حولي من الناس. (إن كنت من هؤلاء وتقرأ هذا المقال الآن، فأنت أقصد، وأطلب منك العفو والسماح).
استراتيجيات “مابعد” قولها:
أي مابعد اللحظة التي عزمت فيها وقلت «لا» …
7| الصدق: والشرح بعمق وصراحة لموقفك
عبر عن شكرك وتقديرك إن كان هذا عرضاً أو طلباً ولك الحرية المطلقة في رفضه. وذكرهم بأهدافك وأولوياتك واهتماماتك، وعبر عن أسفك العميق للرفض. وهذا فيه حفاظ لأواصر العلاقة وأنك لم تقل «لا» بدون سبب. وهو كذلك يساعد الآخرين على تفهم موقفك وأن الرفض هو فقط لهذه الفرصة أو الطلب، وأن بابك مفتوح لهم في المستقبل.
فمثلاً، كان بإمكان صاحبنا أحمد أن يرفض مساعدة أخيه وأن يبين أسبابه، ذلك بأنه في عمل دائم من الصباح وحتى اللحظة. وقد يزيد على ذلك استعداده للمساعدة في أوقات أخرى أو بطرق أخرى كأن يرسل سائقه الخاص لمساعدة ابن أخيه، كما سنرى في الاستراتيجية التالية.
8| الإبتكار: وتقديم الحلول أو الوسائل البديلة
وفي ذلك أن تبين صدق رغبتك في المساعدة، ولكن بالتفكير في حل المشكلة وابتكار حلول بديلة لها. أو بتحويل الطلب أو الفرصة لشخص آخر يمكنه (أو يتوجب عليه) القيام به. أو أن تعطي توصياتك لأشخاص أو جهات أخرى يمكنها القيام بهذا العمل. كما حصل مع صاحبنا أحمد والذي يمكنه أن يقدم خدمات سائقه الخاص أو أن يقترح استخدام تطبيق أو شركات خدمات الطريق لأخيه.
وفي ذلك ضمان بأنك ستكون محل الثقة في المستقبل ولن يجفل الآخرون عنك للأبد، بل سيودون طلب مشورتك وابتكاراتك التي لاتنتهي.
9| التعاطف: ومتابعة التطورات وبيان اهتمامك
وحتى إن بيّنت الرفض وقلت «لا»، فلايمنع ذلك من مراقبة الموضوع عن كثب. وأن تبين اهتمامك وتستمر في السؤال عن التطورات الأخيرة مع من طلبك ورفضت طلبه. وذلك سيساعدك على إبقاء جسور المحبة، خصوصا عندما تكون «لا» مجفلة للآخرين أو صعبة على نفوسهم.
وهذا ما يجب على أحمد عمله مع أخيه وابن أخيه بعد رفضه للمساعدة، فقد يتصل لاحقاً ليطمئن على مسيرة الأحداث، وما فعل ابن أخيه مع خدمة الطريق.
خلاصة
تذكر، أن الغرض من هذه الاستراتيجيات ليس مجرد قول «لا» والرفض بشدة أو جفاء. كما أنه ليس لقول «نعم» والقبول بطيش أو ضعف. وفي كلتا الحالتين ندم! إنما الهدف هو الاستعداد لمثل هذه المواقف، واختيار الجواب الأمثل، مع نقله بالطريقة الصحيحة ومعرفة تبعاته.
أتمنى لك قرارات صائبة وسعيدة!
جميل جدا
التنبيه: عرض تقديمي: استراتيجيات لإدراج كلمة “لا” في قاموسك – شغف المعرفة
اهنيك على اسلوبك وشرحك
سلمت أخوي خالد 🙏🏻